الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين..
وبعــد:
في هذه الأيام ينتظر ألف مليون مسلم في مشارق الأرض ومغاربها ضيفًا عظيمًا طالما انتظروه، وطالما دعوا الله أن يبلغهم إياه بعفوه ومعافاته، وأن يكتب لهم فيه أوفر الحظ والنصيب من الخير.
إنه شهر رمضان، اختاره الله، واختار صيامه ركنًا من أركان الإسلام، وجعل صيامه فريضة وقيامه طريقًا موصلاً إليه.
وقد خاطب الله المكلفين بهذا التشريع فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فخاطبهم بالإيمان، لأن أهل الإيمان هم الذين يعظمون أوامر الله، ثم بين لهم الله بأنه قد كتبه على من قبلهم من الأمم السابقة، فلم يشرعه عليهم لأول مرة حتى يهون عليهم وطأة التشريع، ويشجعهم عليه، ثم ذكر سبحانه بأنه لم يفرض الصيام من أجل أن تجوع الأحشاء أو تظمأ الأمعاء، ولكنه فرضه عليهم ليتقوه، من أجل تزكية النفوس وإصلاحها فقال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فالصيام لا يقف عند الإمساك عن الطعام والشراب، بل يتعداه إلى صيام الجوارح، فمن صام فليصم قلبًا وقالبًا.
فالصيام عبادة وطاعة يؤديها الصائم بحب وخضوع وتعظيم لله، وأعظم ثمرة للصيام أنه يورث تقوى الله وتقوى الله معناها ألا يفقدك الله حيث أمرك ولا يجدك حيث نهاك، ففي الحديث الصحيح: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودًا فلا تنتهكوها».
ثم ذكر سبحانه أنه فرض صيام رمضان أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ثلاثين أو تسعة وعشرين يومًا. ثم استثنى من هذا التكليف المريض والمسافر ومن يعجز عن الصيام أو يخاف عليه منه.
ثم ذكر سبحانه لماذا خص شهر رمضان وشرع صومه، لأنه الشهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ.
ومن هنا نلاحظ أن بين القرآن والصيام صلاة وعلاقة متينة، ففي مسند أحمد «القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصائم: منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل، فشفعني فيه، فيشفعان» فتصور أنك تأتي يوم القيامة، وعندك ذنوب كثيرة وتفاجأ بالصيام والقرآن يدافعان عنك.
ثم بين سبحانه أن هذا التشريع الإسلامي للصوم ليس المراد منه إرهاق الناس أو إجهادهم، وإنما الغرض منه العبادة والطاعة وتقوى الله، ولهذا خفف الله عن المسافر والمريض والعاجز والخائف على نفسه منه، فرخص في الفطر والقضاء في أيام أخر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
ثم بين لماذا شرع القضاء فقال: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
وإذا عرف هذا، فقد ضرب علماؤنا لشهر رمضان مثالاً رائعًا بليغًا فقالوا: إن شهر رمضان كالسوق القائم، ثم ينفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر؛ فتعالوا لنرى ماذا يُعرض في هذا السوق، لقد جعل الله صيامه فريضة وركنًا من أركان الإسلام، وجعل قيام ليلة تطوعًا، وفيه ليلة خير من ألف شهر، هو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، «من فطر فيه صائمًا كان له مثل أجره» قالوا: يا رسول الله! ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم فقال: «يعطي الله هذا الأجر من فطَّر صائمًا على تمرة، أو شربة ماء، أو مذقة لبن» شهرٌ أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، فيا ترى من الرابح في هذا السوق، ومن الخاسر؟
إن الرابح في شهر رمضان من جمع سبعة أمور.
1- إن الصيام شرع لعلة وسبب: وهذا السبب هو من أعظم الأشياء وأجلها عند الله، ومن حصل في صيامه وقيامه على هذه الغاية فقد فاز، ألا وهو الإخلاص؛ فأنت صمت لله ثلاثين أو تسعة وعشرين يومًا، فيعلمك الصيام كيف تعيد النظر في قولك، وفي عملك؛ فإذا قلت فقل لله، وإذا عملت فاعمل لله، لأنك عبد لله فإلى متى وأنت تخدع نفسك، ولا تخلص عملك؟ فيعلمك كيف تتجه باللوم على نفسك، فإلى متى هذا النفاق والكذب والغش؟ إن الصيام يعلمك كيف تريد الله وحده ولا تريد شيئًا سواه.
فهنيئًا لمن استفتح صيامه بالسر الأعظم: مراقبة الله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ وفي الحديث «ألا إن التقوى هاهنا» وأشار إلى قلبه ثلاثًا وفيه إشارة إلى الإخلاص لأنه سر دفين بين العبد وربه، فلا تراه العيون ولا تسمع به الآذان، إن الإخلاص لا يظهر إلا بالأثر، فمن أخلص طيبه الله حيًا وميتًا، وما من عبد يصرف ما لله لغير الله إلا خاب وخسر وخاب رجاؤه وخسر الدنيا والآخرة.
2- هذه الطاعة تعلمك الصبر على طاعة الله ومرضاته، ولا شك أن أعظم ما يكون الصبر حينما تصبر على ما تهوى النفس ومن هنا رتب الله على دخول الجنة أمرين فذكر منها ترك هون النفس، يقول عمر: وجدنا ألذ عيشنا في الصبر، وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، فعبادة الصيام فيها سر يحبه الله، ألا وهو الصبر، وإذا استشعر الصائم أن الله يحب منه هذا الصبر ويثيبه عليه استجمعت نفسه وارتاحت، فيقف في نهاية اليوم وقد ظمأ أو جاع ووجد المشقة والعناء فقال: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» فهذه لا شك معاملة رابحة.
3- أنت تعلمت أثناء الصيام أن تترك الحلال لله، فحري بك أن تترك الحرام فلا تأكل حرامًا، ولا تشرب حرامًا، فإذا صمت عن الحلال فيجب عليك أيضًا أن تصوم جوارحك عن الحرام، يأتيك الشخص يسأل عن قطرة الماء دخلت جوفه أثناء الوضوء، ولكن تجده ينظر حرامًا ويسمع حرامًا ويأكل حرامًا ويشرب حرامًا؛ تقول عائشة رضي الله عنها: "من أراد أن يسبق الدائب المجتهد فليقف عند محارم الله" ويقول عمر بن عبد العزيز: "ليست التقوى أن تقوم الليل وتصوم النهار ثم تخلط بين ذلك، ولكن تقوى الله أن تؤدي فرائض الله وتقف عند محارم الله" فهذا أبو بكر الصديق ما سبق الناس بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشيء وقر في قلبه، ولما قدم له الخادم طعامًا وكان جائعًا فأكل لقيمات ثم سأله: من أين أتيت بهذا الطعام؟ فذكر له بأنها من كهانة تكهنها في الجاهلية أدخل يده في فمه، وقال: "والله لأخرجنها حتى لو لم تخرج إلا مع روحي" ومن هنا فقد ذكر رسول الله أن الصيام علاج لجميع الفتن والشهوات.
فالصوم له تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة والسؤال المهم والأهم: متى يورث الصيام تقوى الله؟ والإجابة: حينما تتوافر فيه ثلاثة أمور:
1- الإمساك عن شهوتي البطن والفرج.
2- ترك المعاصي.
3- النية أن يصوم بغرض الطاعة لله، فلا يصوم مسايرة للمجتمع، ولا خوف ملامة، ولا تخفيفًا للوزن «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» [رواه أحمد].
4- الصيام مدرسة، يعلمك كيف تصون لسانك فلا تسب ولا تصخب ولا تجهل، فإن سابك أحد سامحه، ففي الحديث «فإن سابه أحد فليقل إني صائم» فهذه العبادة تعلمك كيف تصون لسانك، وكيف يعف الصائم عن أعراض المسلمين، وصدق رسول الله حينما قال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» [رواه مسلم].
ولنا وقفة قصيرة مع اللسان: إنه عضو خلقه الله وجعله دليلاً على وحدانيته وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ، فهو عضو صغير خطير يقود صاحبه إلى الروح والريحان، أو يقوده إلى دركات النيران، وهذا اللسان لحمة صغيرة سبحان من أنطقها، خلقه الله وجعل لكل دابة صوتًا ولغة، وعرف سبحانه لغاتها وأصواتها وحوائجها، فهذا سليمان يمر على وادي النمل، وقد علمه الله منطق الطير فسمع صوت النملة ومناجاتها لربها، وقد قص الله علينا كلامها في سورة النمل.
ومع اختلاف الأصوات فلا يشغله صوت عن صوت، فقد وسع سمعه جميع الأصوات.
خلق الله اللسان ليعرب عما في الصدور، انظر إلى الأخرس وقد وقف وعجز أن يعبر عما في صدره والله أنطقك، وإذا عُرف هذا فإن للسان زلات وهنات، فمن أعظم زلات اللسان ثلاث:
1- الكفر بالله: نسأل الله العظيم أن يعيذنا من هذا البلاء، فقد كفر الإنسان حينما قال: لا إله والحياة مادة، لقد كفر حينما قال: إن لله ولدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا لقد كفر يوم نادي غير الله أو استغاث بغير الله.
2- ومن آفات اللسان يوم يستهزئ بالدين وأهل الدين، سلم منك أهل الفساد والانحلال ولم يسلم منك الراكعون الساجدون، ألم تعلم أن من عادى لله وليًا فقد أذنه الله بالحرب؟! فكن على حذر، ضاقت عليك الدنيا فلم تجد من تستهزئ به إلا عباد الله الصالحين، إن من استخف بالعلماء والصالحين فله نصيب من قوله قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ قال العلماء: من استخف بالعلماء فقد استخف بالقرآن لأن العلماء حملة كتاب الله.
3- ومن آفات اللسان السب واللعن، وهو من أسباب دخول النار ويحرم الشفاعة، وعلاج هذا اللسان «قل خيرًا أو اصمت» وذكر الآخرة، يقول ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة منذ أربعين سنة إلا وأعددت لها جوابًا عند الله.
5- الأمر الخامس: عندما يشتد بك الظمأ فلا تمر ساعة إلا وهي أشد من التي قبلها، فإذا كانت آخر ساعة من النهار يقف الصائم موقف المتأمل كيف مرت مع ما فيها من التعب؟ فإذا أذن فرح «للصائم فرحتان عند فطره وعند لقاء ربه»، وعندها يقول: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله» وهكذا يقف المسلم في آخر أعتاب الدنيا، عندما ينتهي العمر فيكون كحال الصائم، وقد ذهب العناء والتعب وبقي الأجر وفرح بلقاء الله، فما يوصي به العلماء: أن يتصور العبد كل يوم في رمضان أنه آخر يوم، فماذا تتمنى فيه، فاجتهد؛ يقول بعض العلماء: «أنام أول الليل رجاء أن أقوم آخره فأنام، فأحزن على ذلك مع أنني أعلم أن الله يكتب لي أجر القيام، ولكن حينما أقوم وأفعل القيام حقيقة فليس كمن يكتب له الأجر».
نسأل الله أن يجعلنا من السعداء الأتقياء الشهداء، ومن هنا متى يتبين للعبد الغبن في الطاعات عند الموت والحشر؛ فهذا فرعون قال في زمان المهلة والصحة: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى، فلا زالت تذهب به نفسه حتى ادعى الربوبية، ولكنه ماذا قال عند الموت قال: آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وكم من عبد طلب المهلة لحظات عند الموت يقول: رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ فكانت الإجابة وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا، أما عند الحشر، فنحن نعرف أطواره ونحن الآن نسمع ونعلم ماذا يكون فيه، وغدًا – والله – نخرج من القبور ونشاهد البعث والنشور، وتصور لو خرجت من قبرك وأعمالك نصفها رياء كيف تكون حسرتك؟! فاجعل نصب عينك أمرين: الموت، وكيف المصير بعد الموت؛ فهذه تجعلك تسأم من الحياة وتستعد للموت، فوالله لو نظرت نظرة في الجنة ما تركت العمل لها ليلاً أو نهارًا، ولو نظرت نظرة إلى النار ما جفت لك دمعة، ولا تلذذت بطعام أو شراب، وقد تعلمت في رمضان، كيف تكون نهاية الطاعة فرحة عند الفطر، وفرحة عند لقاء الرب؛ وكذلك نهاية العمر.
6- احرص على قيام رمضان ما أمكن: خاصة العشر الأواخر، فقد جعل الله من أسباب المغفرة قيام رمضان، واعلم أن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل، وإياك والغلو فإن العبد قد تحصل له همة عالية فيصلي صلاة طويلة حتى إنه ربما ذهب إلى الحرم فيحتقر صلاتهم إلى صلاته، ولكن نصيحتي للجميع التدرج في العبادة، وعدم الإكثار، فقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أنه ينبغي للمسلم أن يكون وسطًا بين الإهمال والكسل والجد في طاعة الله، فلا يجتهد إلى درجة يُعرض فيها عن راحة بدنه فلا يرحم نفسه، ولا يكسل ويهمل القيام فيشارك أهل الغفلة؛ فجاءت الشريعة بالوسط بين الغالي والجافي خوفًا من السآمة والملل، ولما فيها من ظلم النفس، وإذا أجهد نفسه فوق طاقتها يخشى عليه عدم المحافظة على ذلك الورد الطويل، ومن هنا لما صلى رسول الله بأصحابه ليلة إلى نصف الليل ثم انصرف، فقالوا لو نفلتنا بقية ليلتنا فقال: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة» والسبب خوف السآمة والملل، ولأن ينصرف العبد من صلاته وهو نشط وله رغبة خير من أن ينصرف وقد سئم، من هنا حرص أهل الشر على أن يختموا المسلسلات عند أحسن مشهد حتى تتعلق النفوس به ويكون عندها شوق إليه في الليلة الأخرى، ومن هنا اجعل لك برنامجًا في نوافلك مشتقًا من يسر الدين حتى تستمر، فقد نظم الشرع حياة الناس وراعى ترتيب الحقوق، فلو قمت الليل كله فسوف تنام النهار كله وقد تضيع الفرائض وحقوق الناس.
وقيام الليل من أعظم الطاعات التي يراد بها وجه الله، ولكن قد يدخلها الرياء، وكل عبد يتهم نفسه ولا يزكيها مهما بلغ من الصلاح، فلا يغتر بما هو فيه من الخير، دائمًا يحتقر نفسه ويعتقد التقصير، فإنه إذا صار عندك هذا الشعور قل أن تنتكس وقل أن تقل منك طاعة؛ ولذلك ذكر العلماء أن النبي لما امتنع في الليلة الثالثة قال: «صلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة»، فرد الناس للبيوت وجعل أعظم شيء في الطاعة، والخير جعله في الخفاء، يقول ابن سيرين: أدركت أقوامًا يدخل عليهم الضيف، فيخرج من عند الضيف فيتأخر عليه الشيء القليل، وهو يظن أنه عند أهله وهو قائم يصلي، ومن هنا ذكر العلماء فوائد قيام الليل، ومن أشهرها أمران:
1- أنها خفية: فقد كان الرجل يسافر مع الرفقة فيسبقهم إلى فراشه حتى إذا ناموا قام فصلى.
2- أنها ساعة الراحة واللذة: فيؤثر ما عند الله على هوى نفسه وراحتها، ففي الحديث: «رحم الله امرأً قام من الليل فأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء» والعكس كذلك، أي أن الله سيرحمه.
وينبغي للإمام أن يرفق بالأمة ويتحرى السنة، فيحرص على تطبيقها في الصلاة والقراءة، وإذا أحس بأن الناس لا يرغبون بالإطالة فلا يطيل بحيث ينفرهم.
بقي أمر واحد يجب التنبيه عليه وهو عدم إطالة الدعاء والتقيد بالوارد، وعدم إحداث ألفاظ زائدة أو عبارات، بل يحرص على الأدعية المأثورة حتى يصيب السنة، ويتعلمها الناس منه، وعليه بالأدعية الجامعة.
7- أوصيكم بالتقوى والصلاة: فما خرج عبد من الدنيا بشيء أكرم ولا أحب إلى الله من زاد التقوى، وأفضل شيء بعد تقوى الله الصلاة، ففي الحديث: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» فحافظوا في رمضان وغيره على الفرائض فما تقرب عبد إلى الله بشيء أحب إليه مما افترضه الله عليه «وإياكم والسهر في رمضان وهو ثلاثة أقسام:
1- سَهِرَ في طاعة الله، وضَيَّع فرائض الله: فهذا سهره حرام، سواء كان سهر طاعة أو معصية، بل المعصية أشد، فمن سَهِرَ في رمضان، وضَيَّع صلاة الفجر، فقيامه حرام، يقول بعضهم: أسهر حتى أصلي الفجر، ثم يفرط في صلاة الظهر والعصر، وهذا لو سهر، وصلى الفجر، فقد أضاع ليله ونهاره.
2- أن يكون سهرًا مباحًا ولا يترتب عليه تضييع واجب: فهذا سهر مكروه لحديث: «كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعده».
3- أن يكون سهرًا في طاعة الله ولا يخل بواجب من الواجبات: فهذا سهر مستحب وهو منهج السلف كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، فكانوا ينامون أول الليل ويقومون وسطه ويستغفرون بالأسحار.
ومن هنا ماذا أستفيد عندما أسهر بالليل؟ وقد يقول قائل: كان رسول الله يُحيي ليله كله في العشر الأواخر، والإجابة: نعم لكن بطاعة الله، أما أن أحيي ليلي بالقليل والقال، فهذا نومه خير له من سهره؛ ثم قد يسهر البعض في قيام الليل ويضيع الظهر والعصر، وقد يضيع صلاة الجماعة، وبعضهم إن صلى فكأنه فاقد الوعي، وبمجرد ما يسلم الإمام يسقط، حتى إن البعض سجد في الحرم، وإذا به يشخر في السجود من النوم، وبعضهم يصلي الفجر في رمضان بتثاقل.
وخلاصة الأمر أنه يجب على العبد أن يهتم بالفرائض في رمضان، نعم السهر في طاعة الله، لكن يجب ألا يؤثر ذلك على الواجبات، كبر الوالدين، أو العمل، حتى أنك لترى بعضهم عندما يذهب إلى المسجد أو عمله كأنما تجرهم جرًا وإذا دخلوا وجلسوا يتثاءبون، وهذا دليل على مرض القلوب بسبب السهر.
8- الاعتكاف دورة إيمانية: من صيام وقيام وتلاوة للقرآن ودعاء وصدقة ولزوم للمسجد وتعويد النفس على طاعة الله وحبسها على مرضاته، حتى يخرج العبد منها بأعظم زاد وهو زاد التقوى، فهي خلوة شرعية في مدة معينة، لا يترتب عليها ضياع الحقوق سواء حق الله أو حق النفس، أو حق الأهل، فإذا جمعت الفضائل المكانية والزمانية وفضيلة الحال والصفة كانت نورًا على نور.
فأما فضيلة المكان فعلى أقصى درجات الكمال إذا كان في المسجد الحرام، ثم أوسط الكمال مسجد النبي ثم أدنى الكمال المسجد الأقصى لورود السنة بذلك، ثم يقدم بعد ذلك المسجد الجامع لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، ثم يقدم المسجد الأكثر جماعة لحديث «صلاة الرجل مع الرجل أفضل من صلاته وحده، وكلما كان أكثر كان أزكى» [رواه البخاري]، ثم يختار المسجد الذي يخشع فيه لأن النبي ضربت له قبة داخل المسجد من أجل الانقطاع إلى الله واعتزال الخلق والخلوة مع الله، أما باقي الأمور فتختص بالشخص من حيث قرب الخدمات والخلاء.
وأما فضيلة الحال فلا أكمل من حال الصوم، والصوم يقرب إلى أعلى درجات الكمال، وإذا تبين هذا فإن الاعتكاف ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فوصف الله المساجد بأنها معتكف المؤمن، أما حديث «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»، فهو محمول على الاعتكاف الكامل، فالنفي نفي كمال لا نفي صحة، أما السنة فد بينها رسول الله بالقول والعمل، أما القول «لما اعتكف رسول الله في العشر الوسطى قل له جبريل: الذي تطلبه أمامك» فقال رسول الله: «من اعتكف فليعتكف معنا»، كذلك السنة الفعلية فقد ضربت قبة من ادم في مسجده، فاعتكف واعتكف معه أصحابه.
حكم الاعتكاف: مستحب
شروط الاعتكاف خمسة: 1- الإسلام. 2- العقل. 3- النية. 4- الطهارة من الحدث الأكبر. 5- لزوم المسجد الجامع.
وقيد الاعتكاف بهذه الأمور لأن العبادة لا تنفع إلا بتوحيد وإخلاص، كذلك قصد الاعتكاف والانقطاع عن الخلق؛ ولهذا فسر الاعتكاف بأنه لزوم المسجد لطاعة الله، أما شرط الطهارة من الحديث الأكبر؛ فلأن الجنب والحائض ممنوع من دخول المسجد، أما المسجد فلا يصح الاعتكاف في أي موضع إلا المسجد.
والاعتكاف لا يختص برمضان لأن النصوص عامة عَاكِفُونَ أصل عام لكن يتأكد الاستحباب في رمضان، أما سائر السنة فجائز لحديث لما فاته الاعتكاف في رمضان قضاه في شوال، ولما سأل عمر رسول الله عن اعتكاف ليلة لم يأمره بتحري العشر، أما الواجب فهو بالنذر ساعة أو يومًا أو ليلة كما في حديث عمر.
والاعتكاف يشتمل على ثلاثة أمور:
1- أعمال قلبية: سواء فيما بينك وبين الله، كالتوحيد والإخلاص، أو فيما بينك وبين الناس كطهارة القلب من الحسد والكبر والبغضاء وسوء الظن.
2- أعمال ظاهرة: سواء فيما بينك وبين الله من صلاة وصيام، أو فيما بينك وبين الناس من كف شرك عنهم.
3- حفظ اللسان: سواء فيما بينك وبين الله من الذكر وقراءة القرآن والاستغفار، أو فيما بينك وبين الناس من اجتناب الغيبة والنميمة وغيرها.
وخلاصة الأمر في الاعتكاف: أنه خلوة شرعية، المراد بها الانقطاع إلى الله، ومن هنا قال عيسى عليه السلام: «العبادة عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت» لأنه يجمع القلب والعاشر في اعتزال الخلق»، فإن قساوة القلب قد تحصل بسبب كثرة اللغو، ففي الحديث «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله تقسِّي القلب، وإن أبعد القلوب من الله القلب القاسي»؛ فلا ينشغل المعتكف بغير ما التزم به، فقد كانت عائشة تمر بالمريض فتسأل عنه ولا تعرج عليه، ولا يجلس عند المريض، ولا يخرج بغير عذر، إلا لضرورة، وأما الطعام فإذا كان هناك مكان قريب وآخر بعيد لم يذهب للبعيد، ولا يكثر الكلام ولا يخرج إلا بقدر الحاجة، وينبغي عليه أن يهيء نفسه ويرتب ما يعينه على أداء الاعتكاف، ولو خرج لغير عذر انقطع الاعتكاف ووجب عليه أن يجدد نيته في الانقطاع إلى الله، ويرجع مرة أخرى إلى معتكفه.
يقول العلماء: ولما كان فضول الطعام والشراب والمخالطة وفضول الكلام والمنام مما يزيد القلب شعثًا اقتضت حكمة الله شرعية الاعتكاف والصيام، حتى يذهب فضلات الطعام والشراب ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات، وشرع بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه، ولا يضره ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة» [زاد المعاد]
متى يبدأ الاعتكاف؟ والجواب يدخل المعتكف قبل غروب شمس يوم عشرين من رمضان، أما ما ورد من دخوله في القبة بعد الفجر من حديث عائشة فهذا داخل المسجد، والصحيح ما ذكر لأنه قال في الحديث: «رأيت أَنِّي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ».
الخاتمــة
فإذا انقضت ليالي وأيام رمضان فمن الناس من هو رابح، ومنهم من هو خاسر وليلة العيد تسمى في السماء ليلة الجائزة، فإذا كان يوم العيد نادت الملائكة بصوت يسمعه كل شيء إلا الثقلين: «يا أيها الناس اخرجوا إلى رب كريم يُعطي الجزيل ويغفر الذنب العظيم» فإذا برزوا إلى مصلاهم سأل الله الملائكة سؤال تشريف وتكريم للعامل: «ما جزاء الأجير إذا انتهى من عمله؟» قالوا: توفيه أجره، فقال: «أشهدكم يا ملائكتي أني جعلت جزائي من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني».
وعليه فأحوال الناس بعد نهاية شهر رمضان ثلاثة أحوال:
1- فمنهم من صام وقام وأرى الله منه خيرًا، فكانت جائزته أن غفر الله له ما تقدم من ذنبه، فخرج يوم العيد كيوم ولدته أمه، وخرج بصفحة بيضاء وقلب أبيض، ولبس الجديد من الثياب، وألبس الله وجهه نورًا، ولا شك أن أفضل أيام الحياة يوم يغفر الله لك «يا كعب! أبشر بخير يوم منذ ولدتك أمك تاب الله عليك».
2- ومنهم من خرج يوم العيد وقد أعتقه الله من النار: فتاب توبة نصوحًا، وكان قبل دخول شهر رمضان قد استوجب النار، لكن نال العتق في هذا الشهر المبارك، نسأل الله أن يجعلنا من عتقائه من النار.
3- ومنهم من خرج من شهر رمضان مفلسًا: ففي الحديث الصحيح: «رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفر له» وقد يكون عنده أعمال جليلة من صيام وقيام، ولكنه مصر على المعاصي من ترك الصلاة أو ملازمة الحرام، فكان ممن قال فيهم النبي : «رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا التعب والسهر»؛ فتراه ينظر إلى الحرام، ويسمع الحرام، ويمشي في الحرام.
يقول العلماء: «إذا سخط الله على عبد استعمله في أحسن الأوقات بأخس الأعمال، زيادة في عقوبته والعكس» وكم رأينا في الحرم من نساء كاسيات عاريات متعطرات فاتنات مفتونات، خرجن إلى حرم الله في أحسن زينة وهن متبرجات ولا أدري هل هن سمعن بحديث: «يخرجن تفلات» أم لا؟ يا معشر النساء يعني غير متزينات، ألم تسمع المرأة بحديث «أقرب ما تكون المرأة من رحمة ربها وهي في بيتها» رواه الترمذي وحديث أم حميد الصحيح لما ذكر أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها خلف النبي (رواه الإمام أحمد والبخاري).
فلا يظن ظان أنه إذا كان زاهدًا عابدًا تاركًا لأهله يسرحون ويمرحون كيفما يشاؤون، ويسهرون على المحرمات، أنه ناج من عذاب الله!
أسأل الله العظيم أن يبلغنا شهر رمضان بعفوه ومعافاته، وأن يكتب لنا فيه أوفر الحظ والنصيب من الخير، اللهم اجعلنا من الصوامين القوامين المرحومين المقبولين المخلصين، اللهم ما قسمت في هذا الشهر من الرحمة والبركة والعفو لعبادك فاكتب لنا فيه أوفر الحظ والنصيب من الخير، واجعلنا ممن صام رمضان واستكمل الأجر وحاز على عظيم الأجر، وأدرك ليلة القدر، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت (ثلاثًا)، نسألك ألا تحول بيننا وبين رحمتك بما كان من ذنوبنا وإساءتنا وتقصيرنا، اللهم ارحم ضعفنا واجبر كسرنا واستر عوراتنا وآمن روعاتنا وأعظم لنا الأجر والمثوبة فإنك أنت الكريم الذي لا ينتهي كرمه، ولا ينقطع فضله وإحسانه، يا رب إنا نحسن الظن في فضلك ومنك وكرمك، اللهم افتح علينا من واسع فضلك ورحمتك ومنِّك فإنه لا يملكها إلا أنت اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك أن ترزقنا في هذا الشهر الكريم سداد القول وصلاح العمل والقلب.
تمت هذه الرسالة ولله الحمد والمنة، أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام على خير من صلى وصام وقام، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
كتبه/عبد الرحمن اليحي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق