أبحث في المدونة

جائزةُ الغباء الكبرى

 الغباءُ أنواعٌ؛ فمنه ما يكون حسابياً، ومنه ما يكون عاطفياً، ومنه ما يكون اجتماعياً، ومنه ما يكون سياسياً.. إلى غير ذلك. وكما تتعدد أنواعُ الغباء في مجالات شتى، تتعدد مستوياتُ الغباء ودرجاته كذلك.

بعضُ أنواع الغباء ربما لا يكون لصاحبه دورٌ فيه، إذ يكون مركوزاً في أصل خلقته، أو يكون نتيجةً لإساءة تربيته؛ فمِن الناس مَن لا تؤهله قدراتُه العقلية أن يتعامل مع الأرقام ولو بحسابات يسيرة، في حين إنك قد تراه مبدعاً في مجال الآداب مثلاً؛ وهناك من يخفق في إقامة علاقات عادية مع من حوله بسبب أخطاء في تربيته كانت تَحُولُ بينه وبين الاختلاط بالمجتمع في سني طفولته المبكرة، مع أنك قد تراه مبدعاً في دراسته.

ومما لا شك فيه أنه مع تعدد أنواع الغباء فإنَّ أشدَّ أنواعه ما يكون أكثر ضرراً على صاحبه أو مَن حوله.

منذ سنوات قلائل ابتدع البعضُ "جائزة أغبى شخص في العالم"، وهي جائزة مبتكرة؛ فالناس قد اعتادوا جوائز التفوق الحقيقي التي ينالها الأفضل لا الأسوأ، ولم يعتادوا مثل هذا النوع من الجوائز الذي لن يسعى أي عاقل للفوز به بكل تأكيد!

ويعجب المرء عندما يكتشف أن زعيماً سياسياً، ورئيسَ دولةٍ منتخبًا من قِبل الشعب ليتخذ في حقه قراراتٍ مصيرية، يفوز بهذه الجائزة، ويزداد العجب عندما يحصل هذا الرجل على هذا اللقب بجدارة لعامين متتاليين! لكن العجب يتحول إلى جزع، عندما تكون قراراتُ هذا الرئيس لا تؤثر في دولته وشعبه فحسب، بل تؤثر في كل شعوب الأرض؛ لأنه رئيسٌ لدولة عظمى، يمكنه في لحظة تَجَلٍّ -انتشاءً بهذه الجائزة!- أن يُشعِل الكوكب كله بحركة واحدة، وهذا بلا ريب مظهر صارخ من مظاهر الغباء!

نحن نختلف مع منظمي هذه الجائزة، فبرغم أن المسوِّغات التي ساقوها تبدو مقنعة إلى حد كبير في اختيار الأغبى في العالم، إلا أن مقاييسهم تختلف عن مقاييسنا؛ نحن المسلمين الموحدين.

إن إضرار المرء بنفسه في حاضره ومستقبله -مع علمه بذلك تمام العلم- نوعٌ قبيح من أنواع الغباء، وكلما ازداد هذا الضررُ كماً وكيفاً وامتداداً في الزمن، ارتقى صاحبُه في سلم الغباء درجات.

في عقيدتنا، نجدُ أعظمَ الضرر كماً وكيفاً، أن يُعرِّض المرءُ نفسَه لما أنذر الله عباده إذ قال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14]، وأعظم الضرر امتداداً في الزمن، هو ما كان بلا نهاية أبد الآباد. ويجتمع هذا الضرر في الكم، والكيف، والامتداد غير المتناهي في الزمن، لمن يكفر بالله عز وجل بعد أن يتبين له الحق، كمن قال تعالى في حقهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]، فلمثل هؤلاء قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الأحزاب: 64-65].

إن أعظم الخلق غباء، هو من يبيع نعيماً أبدياً في جنة عرضها السماوات والأرض، بعذاب أبدي سرمدي في أضيق مكان، وكلُّ ذلك من أجل نعيم زائل على هذه الأرض الفانية، نعيم لا يخلو -مهما عظم- من الشوائب والكدر، وأهل الحساب يقولون: إن أي عدد مهما كبر لو نُسب إلى (ما لا نهاية) فإن المحصلة تكون صفراً، فهؤلاء الذين يبيعون نعيم حياتهم الذي لا ينفد، بنعيم حياتهم المحدودة في الدنيا، لو لم يكن عليهم بعدها من تبعة لكانوا إنما يبيعونه بلا شيء، فكيف إن كان عليهم من التبعة ما عليهم؟ ذلك هو الخسران المبين!

فجائزة الغباء المطلق الكبرى هي بلا شك منحصرة في هؤلاء، وهو غباء مستحكم لا شفاء منه؛ لأنهم بعد أن يعاينوا عذاب الله -سبحانه وتعالى- يوم القيامة يقولون: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]!

ولطالما أثار دهشتي واستغرابي مواقفُ بعض هؤلاء، وأخص بالذكر منهم ثلاثةً؛ أما الأول فهو النمروذ الذي حاجَّ إبراهيم -عليه السلام- في ربه عز وجل، فادعى -لظلمه وتجبره وملكه مشارقَ الأرض ومغاربها أربعمائة سنة- أنه هو الإله وأنه لا إله غيره!

وأما الثاني فهو على نفس خُطا صاحبه يَسِيرُ، وأعني به فرعون الذي قال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، ولا أكاد أعرف مِن أهل الأرض مَن هو أغبى منهما؛ فأن يصل الغباء بالإنسان إلى أن يكفر بخالق السماوات والأرض؛ هذا شيءٌ، وأن يدعي أنه هو الإلهُ، وهو الخالق مع ما يرى من عجز نفسه وافتقارها لغيرها؛ شيءٌ آخر!
صورة لمومياء رمسيس فرعون موسى عليه لعنة الله
إن كلاً من الرجلين يعلم علم اليقين أنه كان طفلاً لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، وأنه كان يجوع، فيبكي طلباً للطعام، ويُجرح، فيبكي من الألم، ويشتكي، فيبكي من السقم، إن كلاً منهما يعلم أن كل ملكه وسلطانه وجبروته لا يدفع حاجته -بعد أن يشرب أو يأكل- إلى الخروج للخلاء في اليوم مرة أو مرتين، لا فرق في ذلك بينه وبين سائر الحيوان، فأي إله هذا؟!

وقد أخبرنا الله عز وجل عن غباء الرجلين فقال عن الأول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258]، فقد أتاه عليه السلام بدليل على وجود الله سبحانه وتعالى، وهو ما يراه كل صاحب عينين من آثار قدرة الله ومشيئته في إحياء الخلق وإماتتهم، فهذا لا يكون إلا من فاعل قادر مختار، فَلَجَّ النمروذ في الجدال وادعى أنه هو الذي يحيي ويميت فانتقل إبراهيم عليه السلام إلى حجة أظهر من الأولى، إذ قال له: إن الذي يحيي ويميت حقاً، هو ربي وربك، وهو الذي يأتي بالشمس من المشرق، فإن كنت تزعم أنك أنت هذا الرب فأت بالشمس من المغرب، فبهت النمروذ وأسقط في يده، ولكن منعه كبره وغباؤه من الإيمان!

وأما الثاني فكان أفجرَ في الخصومة، وأعرقَ في الغباء، فلم يقرّ بعجزه وإفلاسه مع ما رأى من الآيات البينات والحجج الباهرات، إلى أن أحاط به اليمُّ من جميع الجهات؛ قال الله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، وإن كان للمرء أن يعجب، فمِن إلهٍ دَعِيٍّ يقول لمن حوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]، ويقول لمن لا ينقاد لعبادته: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء: 29] ثم هو بعد ذلك يطلب ممن ينكر ألوهيته وربوبيته ويدعي أنها لغيره أن يأتيه بدليل على دعواه، لا على سبيل التحدي المحكوم على من يقبله بالعجز والإخفاق كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64]، بل على سبيل الطلب الحقيقي!

ولهذا لما قال له موسى عليه السلام: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30]، أي على وجود الله وأنه عليه السلام رسول الله، قال اللعين: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء:31]، قال الله جل وعلا: {فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى * فَكَذَّبَ وَعَصَى} [النازعات:20، 21]، وقد أخبر ربنا عن بقية القصة فقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا}! [غافر:36-37]، أي: وإني لأظنّ موسى كاذباً فيما يقول ويدّعي من أن له في السماء رباً أرسله إلينا

فعجباً لإله يشكُّ في ألوهيته وربوبيته، ويريد أن يتيقن من كذب من يدعي ألوهية وربوبية غيره! وهذا بالتأكيد مظهر من مظاهر الغباء المنقطع النظير، وليس بأقلَّ منه غباءً مَنْ أطاعوه؛ قال الله: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف :54]، فحق عليه وعليهم قول ربنا: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98].

وأما ثالثُ الثلاثة، فهو مقدم أهل النار وزعيمهم؛ أعني به من خاطبه ربنا بقوله: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا} [الإسراء:63]، ذلك أنه كان واحداً من أهل العالم العلوي، وكان يعبد الله عز وجل، ويطّلع على ملكوت السماوات، ويشاهد قدرة الله عز وجل عياناً، وبرغم كونه من الجن إلا أنه كان يكون في صحبة الملائكة، حتى إن الله عز وجل لما أمر الملائكة بالسجود لآدم كان معهم وكان مخاطَباً بأمر الله، كما قال تعالى: {ثمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف:11-12]، ثم إن الله عز وجل قد تفضل عليه بعدم أخذه بذنبه في الامتناع عن السجود، ثم بخطابه وسؤاله عما منعه من السجود، وكانت هذه فرصة للعاصي كي يتوب كما تاب آدم عليه السلام، لكنه تمادى في غيه وأصر على باطله، فقال معترضاً على إرادة ربه وحكمة خالقه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، فقاس الغبي قياساً لا أفسد منه، إذ هو أولاً قياس في مقابلة نص مباشر من الله سبحانه وتعالى لا يحتمل التأويل، ثم هو ثانياً مبني على باطل، فالطين من شأنه الرزانة والحلم، والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو، والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق، والطيش والسرعة، ولهذا خان إبليسَ عنصرُه، ونفع آدمَ عنصرُه

فكان العقاب الأول، بأن طُرد الشقي من الجنة: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، ثم إنه قد تمادى في غبائه فقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء:62]، فقد ظهر لعدو نفسه فساد قياسه، وأن الله سبحانه وتعالى قد كرم آدم عليه إذ خلقه بيده، فكان من البدهي أن يعود ويسلِّم لحكم الله، وتفضيله من شاء على من شاء، لكنه أصر على ضلاله، ومع علمه بعاقبة عصيانه الوخيمة وأن الله سبحانه وتعالى لن يفلته، فإنه -يا للعجب-لم يطلب لنفسه النجاة من العذاب بل طلب فقط المهلة والإنظار!
فأجابه سبحانه وتعالى لما طلب، فكان العقاب الثاني: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأعراف:18].

وكل هذا من أجل ماذا؟ من أجل حقد اللعين على أبينا آدم عليه السلام، ولكي يملأ الشقي نار جهنم مِن ذريةِ مَن فضَّله الله عليه حسداً من عند نفسه، أترى يُغني هذا عنه من عذاب الله من شيء؟!

قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} فبئس الخطيب هو!

قال تعالى في تتمة الآية: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22].

إن العقل لا يستطيع أن يتصور مخلوقاً أغبى من هذا، يتلقى الخطاب من الله، ويسأله ويجيبه، ثم هو يكفر به مع علمه أنه لا مفر له من عذابه! فهو أكثر من يستحق جائزة الأغبى في العالم، بل هو يستحقها بلا منازع إلى يوم الدين، ثم يأتي من بعده فرعون فالنمروذ، ثم كل متكبر مدع للألوهية أو الربوبية بلسان مقاله أو لسان حاله.

أما صاحب الجائزة المبتكرة لدورتين متتاليتين، فإنه غير بعيد عن هذه الدعوى، فيوشك إن بقي على حاله أن يتبوأ موقعاً متقدماً في المرشحين لهذه الجائزة وفق معاييرنا نحن المسلمين، فضلاً عن معايير بني جنسه!

المصدر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق